قبل أيام، تشرفت بوداع شهيد من أبناء مدينتي (الدغارة)، ضمن قوافل شهداء تزفها محافظة الديوانية كلّ يوم، تحت رايات الجيش والحشد الشعبي المساهم بعمليات مواجهة قوى الإرهاب.
قوافل الشهداء الأبطال تلك تحظى بحفاوة كبيرة، إذ ليس هنالك وداع كمثل وداع الشهيد في مدننا، ولعلّه إرث للتفاخر، ترك لنا الأهل فيه صفحات من الأهازيج و(الهوسات) وبما يستحق الاستذكار الدائم، وهي بكلّ تأكيد امتداد ثقافة عريقة، فكم ذا تسابقت الأصوات لتخليد بطولات الشهداء، حتى حفظنا صغاراً عشرات القصائد المادحة، ولعلّ أجمل ما كان يتم استذكاره رائعة أبي تمام في مديح شهيد يستهلها بالقول: «كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر.. فليس لعين لم يفض ماؤها عذر».
عصر ذاك اليوم جلّ الخطب وفدح الأمر، فشهيدنا البطل كان في الصباح الباكر يزف بشرى الانتصارات لأهله، ليفاجئهم بعد ساعات أخ مقاتل آخر يشاركه الساحة القتالية بخبر استشهاده، ولم يكن الاستعداد للوداع معداً بما يستحق، إذ لا وداع يليق بشهيد مطلقاً، ما دام موعوداً بحضور أسمى وأكثر بهاء.
تهاني ودموع حرى وباقات ورد وريحان وحلوى تناثرت فوق النعش.. وحمامة وحيدة - أقسم صادقاً - أني رأيتها تحلق حول الموكب لمسافة طويلة، وشهودها رؤوا معي أيضاً كيف احتضنت أخت للشهيد وأمه العلم كما لو أنه الراحل الفذّ. مشهد لا يتناقض في مدينة صغيرة زفّت قبل هذا الوداع بيوم واحد شهيداً أصغر، وتتسابق الأجيال فيها لنيل شرف خوض المعركة أو نيل الشهادة. على مشارف المدينة، وبعد ساعات من التبليغ عن قدوم موكب الشهيد، خرج وجهاؤها في مسيرة لا يمكن أن توصف إلا بما يستحقّه المجد الوطني بأبهى صوره، فالقضية أبعد من التناخي العشائري، لأن الحضور كان يشتمل على أطياف مختلفة.
ذلك الصفو وتلكم الهيبة كادت أن تلوث بأدران العبث والمقاصد الضيقة، ساعة تلاقف البعض بنادقهم مباشرين بإطلاق عيارات نارية عكرت سعة الطقس، بإضفاء نقيض للفرح كاد أن يتسبب بمأساة مروعة لولا لطف الله وتقديره للخير، حيث سدّد أحدهم بندقيته بعشوائية ليصيب سلكاً كهربائياً في أحد أعمدة الخط الوطني، تهاوى قرب رؤوس المشيّعين، دون أن يوقع خسائر، لتتصاعد الأصوات المستنكرة لهذا العمل ويتعالى لغط جانبي لم يكن في أوانه، انتقل بالأجواء المتآلفة إلى حالة من التشنج القسري تسبب بها مجموعة ربما يكون فيهم من يضمر النوايا الطيبة، ولكن ما الفائدة، فـ»طريق جهنم معبّد بالنوايا الحسنة».. كما يقول المثل.
من البعيد تنادت أصوات لأقارب الشهيد راجية من جميع الضيوف التمسك بشروط المراسيم السلمية، واستذكار وصايا الدولة، وتعليماتها القانونية التي تجرّم إطلاق العيارات النارية، داعية للالتزام بوصايا المرجعية الدينية وتنبيهاتها إلى ما يجري في الأفراح والأتراح من كوارث، حرّمت بسببها ذلك الفعل جملة وتفصيلاً في جميع المناسبات المشهورة بذلك التقليد الأهوج. وطالما أشارت المرجعية والجهات المسؤولة إلى ضرورة ترشيد استهلاك الأعتدة وعدم تبذيرها في هذا الظرف الوطني الاستثنائي.
في سنة سابقة خسرت مدينة الديوانية أثناء توديعها لأحد الشهداء طفلاً صغيراً ذهب ضحية الإطلاق العشوائي.