في عدد من البلدان، تشرف الطبقة السياسية على مؤسسة الدفاع وتقيد القائمين عليها بقيود تحول دون انتهاكهم حقوق الإنسان، أو دون انتهاج سياسات خطرة وعدائية. وفي اسرائيل، انقلبت الأمور. فالسياسيون الإسرائيليون يزدرون مبادئ الدولة والقوانين، ويسعون الى حلول عدائية وحربية، في وقت يحاول قادة «جيش الدفاع الإسرائيلي» ومديرو وكالات الاستخبارات تهدئتهم وتقييد نوازعهم (غير السياسية). ففي الأسبوع الماضي، عرض رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو منصبَ وزير الدفاع على أفيغدور ليبرمان، وهو سياسي قومي متطرف عدائي. وهذا فصل من الحرب الدائرة بين نتانياهو والقادة الاستخباراتيين والعسكريين، والنزاع طويل بينهم وقد يقوّض حكم القانون وحقوق الإنسان أو يفضي إلى حملة عسكرية غير مجدية وغير ضرورية. ويرى رئيس الوزراء ان مؤسسة الدفاع تنافس سلطته وتعارض اهدافه. وتسليم ليبرمان الانفعالي والمتطرف المستهتر والمجازف دفة المؤسسة العسكرية هو مؤشر لا لبس فيه الى طي مرحلة القبول بمعارضة الجنرالات وقادة الاستخبارات. وليبرمان معروف بالرد الوقح على من يعارض وجهات نظره. والجولة الأخيرة من النزاع بين السلطتين السياسية والعسكرية بدأت في 24 آذار (مارس) حين قتل إيلور عزريا، وهو رقيب في الجيش الإسرائيلي، فلسطينياً مصاباً وملقى على الأرض، بعد ان طعن زميل الرقيب. ودان قادة الجيش الإسرائيلي عملية القتل. ولكن السياسيين اليمينيين المتطرفين أيدوا الرقيب عزريا، ولجأ ليبرمان، وكان يومها على رأس جناح صغير من المعارضة اليمينية المتطرفة، الى القضاء العسكري، ودعم الجندي. واتصل نتانياهو بوالد عزريا للتضامن معه.
وأبلغني جنرال ان كبار قادة المؤسسة العسكرية رأوا أن هذا الاتصال الهاتفي تحد فاضح للسلطة العسكرية. واختار نائب رئيس الأركان، الجنرال يائير غولان ذكرى بالغة الحساسية والأهمية في الروزنامة الإسرائيلية، اي أمسية إحياء ذكرى الهولوكوست، للرد على السياسيين. وقال ما أشبه إسرائيل اليوم بألمانيا في الثلاثينات (من القرن الماضي). وفي وقت هاجم نتانياهو الجنرال غولان، أيده وزير الدفاع، موشيه يعالون، وهو رئيس أركان سابق وعضو في حزب رئيس الوزراء الذي يؤيده الجيش. ودعا كبار الضباط إلى الكلام على سجيتهم، ولو كان كلامهم مخالفاً لأراء القادة السياسيين.
فاستدعى رئيس الوزراء الإسرائيلي يعالون، ثم دعا ليبرمان إلى ائتلاف حكومي يشارك فيه تياره البرلماني الصغير واقترح عليه حقيبة الدفاع. وفي تاريخ إسرائيل القصير، درج قادة الجيش والاستخبارات على الدعوة الى توسل القوة، وفي كثير من الأحوال ازدروا القوانين وحقوق الإنسان. وكان القادة السياسيون أكثر انضباطاً. وفي 1954، بادرت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، في الخفاء عن رئيس الوزراء يومها موشيه شاريت، إلى سلسلة من الهجمات الإرهابية في مصر. ورمت هذه الهجمات إلى زرع الشقاق بين ذلك البلد وبين الولايات المتحدة وبريطانيا. وفي 1967، حضّ العسكر رئيس الوزراء، ليفي أشكول، على الهجوم على مصر وسورية. وحين طلب منهم الانتظار، خططوا لاعتقاله في القبو إلى أن ماشاهم.
ولكن ماذا وراء انقلاب الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية إلى حمائم سلام، نسبياً طبعاً، وتحول السياسيين صقوراً؟ في العقود الثلاثة الأخيرة، صار الجيش والاستخبارات اكثر تحفظاً في خرق القوانين. وساهم في التحول هذا الخوف من الملاحقة امام محكمة الجنايات الدولية. وليست الإيديولوجيا والديانة أو الحسابات الانتخابية دافع الأجهزة الإسرائيلية، إلى «الاعتدال»، بل ترجيحها كفة المصلحة القومية. وقادة الجيش والاستخبارات مطلعون من كثب على طبيعة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وعلى الثمن المترتب عليه.
ولكن العامل الراجح في النزاع بين المؤسسات السياسية والدفاعية يختزل بكلمتين: بنيامين نتانياهو. كثر من الضباط في الجيش والاستخبارات يمقتونه. «فهو أسوأ مدير عرفته في حياتي، وتركت العمل لأنني لم أعد أطيقه... وعرفت عدداً من رؤساء الوزارة، وعلى رغم ان أياً منهم لم يكن منزهاً او بريئاً، كانوا يرجّحون كفّة المصالح القومية على المصلحة الشخصية. ونتانياهو يغرد خارج سربهم،»، يقول مائير داغان، مدير «الموساد» السابق. واصطدم نتانياهو بالمؤسسات الأمنية حول عدد من المسائل، منها اقتراحات تحسين ظروف عيش الفلسطينيين في الضفة الغربية (وعارض نتانياهو مثل هذه الخطوة)، واتهام رئيس السلطة الفلسطينية بإذكاء الإرهاب (قال جهاز الأمن الداخلي، «شين بيت»، ان الرئيس يساهم في مكافحته)، واقتراح نتانياهو ترحيل أسر الإرهابيين (لم يؤيد الأمن الداخلي الاقتراح، وأعلن المدعي العام انه غير قانوني). وعارض كل من جهاز الشين بيت والموساد الحملة على غزة في 2014.
وفي عدد من الحوارات مع كبار الضباط، دار الكلام على احتمال انقلاب عسكري إثر تعيين ليبرمان وزيراً للدفاع. ولكن الكلام هذا كان على سبيل التندر. ومثل هذا الانقلاب مستبعد. ويتوقع أن يأتي التحدي الأبرز للعلاقة بين السياسيين اليمينيين المتطرفين وبين كبار الضباط حين يسعى ليبرمان إلى تنفيذ ما اقترحه في السابق. فما موقف قادة الاستخبارات إذا أمر الوزير الجديد بعدم ملاحقة مرتكبي جرائم في الخليل من أمثال إيلور عزريا أو باغتيال قادة «حماس» إذا لم يســـلموا رفاة جندي أو «احتلال غزة» أو «قصف سد أسوان»، كما قال في حال نشبت حرب مع مصر؟ فهل سينزل هؤلاء القادة على أوامره أم يعصونها؟