لم يعد أمام دول المنطقة، غير أن تصحح أوضاعها، وأن تراجع حكوماتها طرق عملها، بحثاً عن وسائل تُحقق آمال مواطنيها، ذلك أنه مع غياب شبه كامل للحكومات المنتخبة، فإنه عليها تلبية احتياجات الناس وتقديم الخدمات لهم، لتحظى برضاهم وتأييدهم، وذلك بالضبط ما أقدم عليه الأمير السعودي محمد بن سلمان حين قدّم خطة اقتصادية، تبدو ظاهرياً وكأنها تستهدف تنويع الموارد الاقتصادية، وعدم الاعتماد على النفط بشكل رئيسي، وغطّت الخطة عدة محاور أبرزها صناعة مجتمع حيوي، والوصول إلى اقتصاد مزدهر، وإطلاق طموح وطني، في دولة لم ينسجم نسيجها الاجتماعي بعد عقود على ولادتها، حتى أن البعض يُشكّك في تقبل وهضم المجتمع السعودي لهذه التحولات، وبضمنها إنشاء أكبر صندوق سيادي في العالم، «قيمته الفا مليار دولار»، يُنتظر أن يحوّل السعودية لتكون لاعباً أساسياً في أسواق المال الدولية.
لا نعرف إن كانت الخطة السعودية أخذت بالحسبان مخاطر الصندوق الاستثماري السيادي، أو درست بتمعن تجارب عدد من الصناديق السيادية، وما لحق بها من خسائر كارثية، وانخفاض قيمتها أثناء الأزمة المالية، التي ضربت الإقتصادات الغربية قبل عدة أعوام، حتى لا نصل إلى نتائج كارثية، فتجد السعودية نفسها بدون نفط ولا عوائد من الصندوق الاستثماري، ومُهم أيضاً لنجاح خطط الأمير، التركيز على القضاء على الفساد، وتقليصه إلى حدوده الدنيا إذا لم يكن ممكناً اجتثاثه كليا، أما القول بأن مسألة الفساد «نسبية»، فمردود على صاحبه، إذ كيف يمكن أن تؤدي هيئة الفساد واجبها، في بلد يعج بحيتان كبار غارقين فيه، ومعظمهم من عليّة القوم وأهل الحكم؟.
السعودية اليوم تنتقل إلى خانة المبادرة على المسارين الاقتصادي والسياسي، مع التخلف عن التقدم في المسار لاجتماعي، المُحتاج بحسب أهل الحكم هناك إلى التريث، وخلخلة نفوذ هيئة الأمر بالمعروف، التي تعرضت مؤخراً إلى تقليص نفوذها الرسمي والقانوني، مع استمرار نفوذها الاجتماعي. وثمة اليوم رهان على المجتمع بعد التسهيلات التي منحتها «الرؤية» لمشاركة المرأة في سوق العمل بنسبة 30 بالمئة، بمعنى أن المرأة ستمتلك القوة اللازمة لمواجهة القوى المناوئة لكثير من حقوقها. ولأن الاقتصاد مفتاح التغيير، فإنه كان واجباً التحول من اقتصاد يعتمد على النفط دون غيره، إلى تنويع مصادر الدخل، بما في ذلك منح المقيمين من الأجانب حقوقاً أقل من المواطنين، وأعلى من نظام الكفيل، على أمل الإسهام في توطين رأس المال العربي والاجنبي داخل السعودية، بعد أن كان يجري تسريبه إلى خارجها، ليس رغبة من المقيم بل بسبب الظروف الموضوعية.
يُراهن البعض على أن خطة إبن سلمان ثورة ثقافية ضد الفكر الوهابي، تستهدف تمهيد طريقه إلى العرش، من خلال تطوير النظام التعليمي والتربوي، والتركيز على التعليم المبكر وتأهيل المدرسين والقيادات التربوية، استجابة لمطالب أميركية بضرورة تحريرها من الفكر الوهابي، والاستجابة لمطالب الغرب بتعزيز دور المرأة والحريات، وإقامة مشروعات ثقافية وترفيهية من مكتبات ومتاحف ومسارح وغيرها، وهذا كله يقع في أساس التمهيد للقفز إلى العرش، بمخاطبته للعقل الغربي الذي طالما اتهم بلاده بالتخلف والاحتكام إلى المطوعين المنغلقين على فكر إبن تيمية، والمؤكد أن هؤلاء لن يستسلموا بسهولة.
الواضح أنه من الصعب فصل «الرؤية» عن الصعوبات الراهنة التي تواجهها السعودية، جرّاء تدهور أسعار البترول، والعجز غير المسبوق في الميزانية، وتراجع الاحتياطي المالي الذي قد يتلاشى خلال 5 سنوات، إضافة إلى تفشي البطالة، وأعباء المجابهة مع إيران والحرب في اليمن، ومع كل ذلك انتقال البلاد إلى مرحلة ما بعد النفط، وارتفاع حاجات استهلاك الطاقة فوق طاقة الإنتاج، وهنا برزت الحاجة إلى اجتذاب استثمارات أجنبية ضخمة عن طريق الصندوق السيادي، لتوكل إليه عملية اكتتاب في أقل من 5 بالمئة من أسهم أرامكو في مرحلة أولى، تليها مراحل اكتتاب في شركات سعودية عملاقة من بينها عدد من الشركات البتروكيميائية، ولكن يبقى لضمان نجاح المشروع الحصول على ثقة المستثمرين، والشفافية واستقلالية الشركات أو المؤسسات المعنية عن السلطة السياسية، وهناك علامات استفهام كبيرة ما زالت قائمة حول إمكانية فصل الأرامكو عن العائلة المالكة، وعن الاعتبارات السياسية الخاصة بالمملكة.
والمهم أن «رؤية السعودية» تعترف أن الأوضاع لم تعد تُحتمل، لكن اختبارها الحقيقي سيكون في التطبيق، ذلك أنها مع طموحها تمتلك في ذاتها إيجابيات وسلبيات، فالقول بإمكانية إنهاء الاعتماد على النفط خلال أربع سنوات ليس واقعياً، كما أن الترويج للمملكة كوجهة سياحية يحتاج إلى انفتاح لا يبدو ممكنا في الواقع الراهن، ويتخوف كثيرون من أن تكون الإصلاحات مؤلمة من الناحية المالية، مع التوجه لفرض ضرائب ورسوم لدعم المالية العامة، وعزم الحكومة الدفع بمزيد من السعوديين للعمل في القطاع الخاص الذي لا يحظى بمميزات القطاع الحكومي.