هيفاء بيطار
قد تكون من أصعب الأمور في الحياة هي العملية التربوية، ولا أشكك بالنوايا الطيبة والصالحة للأهل وبأنهم يريدون لأولادهم كل النجاح والصفات الحسنة، لكن كم تنقص الكثير من الأهالي الدراية بالتربية المفيدة والمثمرة نجاحا في المدرسة والحياة. وقد بين علم نفس الطفل حقيقة بالغة الأهمية وهي خطورة إلصاق صفات بالطفل كأن نصف الطفل بأنه خجول -وقد لا يكون خجولا- لكن تكرار هذا الوصف يجعله خجولا ويزرع فيه صفة هو بريء منها، حتى لو كان خجولا قليلا فإن تكرار وصفه بهذه الصفة وخاصة أمام الناس يكرّسها لديه. أو أن نقول عن طفل إن ميوله أدبية ولا يفلح في الرياضيات عندها أيضا نرسّخ هذا الاعتقاد لديه، لأن الأطفال كالعجينة اللينة نكوّنها كما نريد. ولا يقتصر الأمر على ذلك بل كم من الأهل من يرسخون الإحساس بالفشل عند أولادهم ويقولون هذا لا يفلح في العلم. وتكمن الخطورة الأكبر في مقارنة التلميذ الطفل مع ذويه وسؤاله كم علامات فلان وعلاّن مقارنة بعلاماتك في العديد من المواد، هذا السلوك الخاطئ من الأهل يُرسّخ الإحساس بالدونية لدى الطفل والإحساس بالفشل، وتستمر معه هذه الصفات وتتفاقم لدرجة قد يكره العلم والمدرسة حقا. بالتأكيد يطمح كل الأهل إلى تفوق أولادهم ويريدونهم أن يكونوا من الأوائل، لكن ثمّة فروق في مستوى الذكاء بين الناس والأهم بين نوع الذكاء، فثمة ذكاء عملي دراسي يتجلى بالتفوق الدراسي وثمة ذكاء عاطفي -تنبه له العلماء مؤخرا- وهو يعتمد على الحدس والمهارات العديدة خارج المدرسة، وقد صدر كتاب مهم جدا في سلسلة إبداعات عالمية عن الذكاء العاطفي. لكن للأسف فإنّ مقياس النجاح بشكل عام لدى الأهل هو علامات المدرسة، وهم يربطون النجاح في الحياة بالنجاح الدراسي، مع أن مجالات النجاح في الحياة لا تُعدّ ولا تُحصى. لا أنسى طالبة في السابعة من عمرها وكانت في الصف الثاني الابتدائي تعشق الرسم وإبداعها عال فوق التصور، كانت ترسم شخصيات أفلام كرتون وزملائها لكنها كانت تتعرض للتقريع لأن علاماتها منخفضة في بقية المواد، ولم يُقدر أحد موهبة تلك الطفلة التي تفجّرت مبكّرة بل تعرضت للتقريع بأنها تضيع وقتها في الرسم بدل أن تحلّ مسائل رياضيات وفيزياء علامة التفوق والنجاح في المدرسة والحياة. وذبلت موهبة الطفلة ولم تجد من وسيلة للدفاع عن موهبتها وما تتوق إليه روحها. كم من الأهل يتجاهلون ميل أولادهم إلى اختصاص معين ويُجبرونهم على دراسة اختصاص آخر كالطب والهندسة، أذكر أحد طلاب البكالوريا وكان قد حقق مجموعا عاليا يخوّله دراسة الطب لكنه كان يرغب بدراسة الترجمة الفورية، ونشأت مشادات عنيفة بينه وبين أهله الذين يؤمنون إيمانا مُطلقا أنهم يعرفون مصلحة أولادهم أكثر منهم، وكانت النتيجة أن غادر ابنهم البيت ولجأ إلى أحد الأديرة. يمكنني أن أعطي المئات بل الآلاف من الأمثلة عن سوء العملية التربوية رغم أنها مُبطنة بنوايا حسنة، لكن على الأهل أن يُدركوا أن النجاح في المدرسة ليس حتما النجاح في الحياة، فكم من ناجحين في المدرسة فشلوا في امتحان الحياة والعكس صحيح، وعلى الأهل أن يُدركوا أن لكل واحد من أولادهم شخصية متميزة ويسعى لتحقيق ذاته، ولا سعادة في الحياة ولا نجاح سوى في تحقيق الذات، أن نكون أنفسنا وليس ما يريد الآخرون لنا. والأهم أن يكفوا عن إطلاق الصفات على أولادهم كالخجل والعند والغباء الخ.. لأن تكرار إطلاق هذه الصفات يُولدها ويُرسخها في نفسية الأطفال المساكين الذين غالبا ما يكونون بريئين منها. العملية التربوية تتطلب ثقافة واسعة ودراية في نفسية الطفل وحبذا لو يفهم الأهل أن النجاح في المدرسة ليس التقييم الوحيد للنجاح في الحياة. |