تعيش المنطقة هذه الأيام تحركات من نوع آخر على صعيد القضية الفلسطينية التي كاد أن يطويها النسيان على خلفية أزمات ما بعد «الربيع العربي».
أحدث فصول هذا العرض يتمثل في المبادرة الفرنسية التي تهدف إلى تسوية الصراع وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من خلال مؤتمر دولي تسبقه مراحل تحضيرية وتعقبه آليات تنفيذية، وتأتي المبادرة استكمالاً لسلسلة من التحركات الفرنسية التي ظهرت مقدماتها في نهايات عام 2014 ولم يكتب لها النجاح..
وأغلب الظن أن مصير المبادرة الجديدة لن يختلف كثيراً عن سابقاتها لغياب الرغبة والإرادة السياسية لدى الجانب الصهيوني في تسوية هذا النزاع ورد الحقوق إلى أصحابها، وأغلب الظن أيضاً ومع افتراض حسن النية فإن طرح المبادرة الفرنسية ومبادرة جون بايدن نائب الرئيس الأميركي في هذا الشأن أيضاً قد يكون له علاقة وثيقة بالتحولات الخطيرة التي قد تشهدها المنطقة في المرحلة المقبلة.
وحتى بعيداً عن الرفض الإسرائيلي الصارم للمبادرة الفرنسية - باستضافة باريس مؤتمراً دولياً لبحث عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين يوم 30 مايو الجاري بحضور الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وبمشاركة عشرين دولة بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ومن دون الإسرائيليين والفلسطينيين.
بهدف الإعداد لقمة دولية تعقد في النصف الثاني من هذا العام بحضور مسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين - فلا مجال للتفاؤل نحو ما هو مطروح.
فقد اعتدنا تاريخياً وفي مثل هذه الظروف والأجواء أن تميل الكفة نحو إظهار قدر من التعاطف مع المشكلة الفلسطينية، قضية العرب المحورية والتاريخية، من خلال الحديث عن مبادرات أو تسويات أو مؤتمرات ولكنها للأسف كانت تنتهي إلى فشل ذريع بما يقود إلى مزيد من التدهور والقمع للفلسطينيين لغياب الإرادة السياسية الدولية الحقيقية لإنهاء الصراع..
وأبرز مثال أو واقعة تاريخية في هذا الشأن مؤتمر مدريد للسلام الذي يمر على عقده هذا العام ربع قرن من الزمان، وجاء عقده بعد أشهر من تحرير الكويت في حرب عاصفة الصحراء.
ففي عام 1991 كان مؤتمر مدريد أول بوابة للاعتراف بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني وكان بداية التوقيع على معاهدات للسلام مع الكيان الصهيوني، في مؤتمر مدريد جلس العرب والفلسطينيون من جهة والإسرائيليون من جهة أخرى، وجهاً لوجه من أجل حوار للسلام، استغرق ثلاثة أيام..
وقد سجل من دون أدنى شك منعطفاً تاريخياً في الشرق الأوسط والعالم، ولكن المحصلة النهائية كانت عدم نجاح المؤتمر في إحراز أي تقدم.
ومن وقتها وحتى المرحلة الراهنة عقدت عشرات المؤتمرات الثنائية وذات البعد الدولي من شرم الشيخ إلى واي ريفر وحتى كامب دايفيد، وطرحت كذلك مبادرات ومرجعيات عديدة ربما آخرها وأهمها خريطة الطريق الأميركية التي طرحتها إدارة جورج بوش الابن ونصت صراحة على حل الدولتين، ولكن هذه المرجعية طرحت إبان تدمير العراق بعد غزو القوات الأميركية له عام 2003..
ومن وقتها لم ينفذ شيء منها في هذا الاتجاه.
وبرغم أن الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما أكد أن شيئاً لن يتم حتى رحيل إدارته إلا أن هناك ما يشبه الإجماع من جانب أطراف دولية عديدة على المطلوب لإنهاء النزاع وخاصة حق الشعبين اليهودي والفلسطيني في العيش بكرامة وأمن جنباً إلى جنب في دولتين..
وتنفيذ صيغة اتفاق الأرض مقابل السلام الذي يتطلب مفاوضات خلاقة قائمة على المقايضة من أجل معالجة المعضلة الشائكة التي تطرحها مسألة الأرض والمساحة والتعويض والاعتراف المتبادل في حين أن الخطوط العريضة لحل مرضٍ وواقعي ودائم واضحة المعالم تماماً.
وفي هذا السياق المتقلب والمضطرب، اقترحت فرنسا مبادرتها التي تهدف إلى إنهاء المأزق وتسريع وتيرة التقدم نحو الحل المعترف به، وتقوم المقترحات الفرنسية على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ونهائية، وتحدد مهلة 18 شهراً للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض، تقوم على إنشاء دولة فلسطينية بالاستناد إلى حدود 1967، مع المقايضات اللازمة في الأراضي، والاعتراف بالقدس العاصمة المشتركة للدولتين.
وتسعى باريس بذلك إلى القيام بدور الوسيط الأميركي الذي أعلن صراحة خروجه عن الحلبة ولو إلى حين وتسعى باريس أيضاً إلى وضع الكرة في ملعب مجلس الأمن الدولي أملاً بأن يسهم «السلام المفروض» في تغيير قواعد اللعبة، وتحاول فرنسا بذلك أن تضع النتيجة قبل العملية ذاتها ويستخدم الدبلوماسيون الفرنسيون تقنيات تفاوضية كلاسيكية..
واضعين الأطراف تحت ضغط الوقت عبر فرض مهلة لإتمام عملية يمكن أن تطول وتطول مع ما يرافقها من مشاحنات لا تنتهي.
الشواهد كافة تؤكد أن هذه الرؤية الرومانسية لن يكتب لها النجاح في ضوء الأوضاع القائمة في المنطقة وقد يكون هدفها التهدئة على الجبهة الفلسطينية – الإسرائيلية كما حدث في مرات سابقة، وأيضاً في ضوء فشل مؤتمرات عديدة لغياب إرادة الحل وأكبر دليل على ذلك ألا ضوء قد ظهر في نهاية النفق منذ مؤتمر مدريد عام 1991 وحتى مبادرة باريس الأخيرة.