يكذب الناس العاديون بمعدل كذبة ونصف في اليوم الواحد، بحسب وثائق استولى عليها علماء نفس بوضع اليد على نتائج دراسة بشرية غير فريدة من نوعها، لكنها تختلف عن مثيلاتها في كونها موثقة بالأرقام والمسببات كما أن الدراسة تؤمن بالتدرج الوظيفي والمالي والسياسي، حيث يتناسب معدل الكذب طرديا مع رقي المنصب والوضع المالي ودرجة الكرسي السياسي، وعدد سطور الخطبة التي يصبها المحتالون على رؤوس الشعوب المسكينة في المناسبات الوطنية التي تقام على شرف تأبين الأوطان.
لكن السياسي، باعتباره إنسانا غير عادي، لا يمكن أن ينطبق عليه الرقم المقدر في قائمة الكذب اليومي، فكيف يكتفي بكذبة ونصف الكذبة على مدار يوم كامل من العمل الوطني لتقويض أي فرصة لبث الأمل في نفوس الرعية، وكيف سيروج لبرنامجه الانتخابي المقبل لخداع المزيد من الناس، وكيف سيرد على أسئلة الملايين من الفقراء والجياع والمهجرين والمقتولين؟
هذه الحلقة المفقودة، تصدى لها متخصص كبير في علم الاجتماع التطبيقي، ليقرر بأن الإحصاءات النهائية تظهر بأن أكثر من 30 بالمئة من الكذب يقع ضمن سياق الكلام الظاهر غير القابل للانكشاف، بمعنى أن الناس إذا تحدثوا 10 كلمات فإن 3 منها على الأقل ستكون كذبات مقنعة تحث دثار الكلمات المنمقة، مضيفا أن النساء والرجال متساوون في هذا السباق الخداعي.
واحد من الأسباب الكثيرة التي ثبت أنها مجرد أخطاء شائعة، والتي تجعلنا خاضعين تماما لخداع الآخرين، هو المظاهر السلوكية التي يتبناها هؤلاء أثناء ارتكابهم فعل الكذب، فالكذابون من وجهة نظرنا يبالغون في استخدام لغة الجسد والحركات الانفعالية للتغطية على كذبهم، كما أنهم يحاولون قدر الإمكان تجنب التحديق المباشر في عيون الضحية (المتلقي)، لكن البحث العلمي الحديث أثبت عكس ذلك تماما، فالكذابون المحترفون نادرا ما يستخدمون لغة الجسد أثناء الحديث كما أنهم لا يتورعون في النظر إلى عيون محاورهم، حتى إذا كانت على شكل مرآة عاكسة تضحك من كذبهم وتبادلهم نظرة احتقار، يرسلها الشخص المقابل في بريد مستعجل ليوقف سيل الوحل الخارج من فم متحدثه. إلا أن الصعوبة تكمن في عدم وجود صفة عالمية مشتركة لسلوك الشخص الكاذب، والطريقة الوحيدة لتمييز كذب أي شخص في حوار ما مثلا هي معرفتنا المسبقة عنه، فمن السهل مقارنة نبرة كلماته وحالته النفسية أثناء الكذب عندما تخالف الطريقة المعتادة التي تحدث بها في وقت سابق.
والأمثلة كثيرة في مجال البحث الجنائي، فمن المتعارف عليه أن المحقق الشارلوك هولمزي يستطيع ببساطة استدراج المجرم من خلال سرده للوقائع والأحداث التي مرت عليه في يوم الجريمة، وعندما يبدأ المتهم بسرد الأحداث بتفصيلاتها الدقيقة بصورة سلسة ليقترب من الحديث عن لحظات معينة في هذا اليوم، فإن نبرته ستتبدل بالتأكيد ويطرأ على سلوكه تغيير واضح ويزداد عدد وقفاته بين الكلام حتى تمر هذه الدقائق ليعود إلى طريقته السلسة في سرد أحداث ما تبقى من اليوم، وهذه اللحظات بالذات هي التي كذب فيها والتي سيمسك بها لاحقا المحقق الحاذق كخيط رفيع قد يتحول إلى حبل مشنقة غليظ يلتف حول عنق المتهم.
ومع ذلك، فإن هذه المهارات لا تبدو مجدية إذا ما اضطررنا إلى التعامل مع سياسي عربي يحنو على أبناء شعبه كما يحنو ثعلب جائع على قفص دجاجات. ويبدو أننا في حاجة ماسة لإتقان مهارة كشف الكذب الذاتية لنحمي أنفسنا من خداع الآخرين، وربما يأتي من يقترح علينا هذا البحث الواقعي الجريء “لماذا يتوجب علينا نحن كشعوب أن نكون بهذه الدرجة من السذاجة؟”.