وليد علاء الدين
الشعر نوعان؛ صوتي، وبصري. قصيدة الشعر الصوتي وسيلتها للوصول إلى المستمع العام هي الأذن، وهدفها نقل رسالة، تنطفئ بمجرد انتهاء الصوت، فلا يبقى منها سوى ما يشبه الخبر: أنا أحبّ أو أكره، أو ما يشبه فعل الأمر: اقبل أو ارفض كذا، وفي أفضل الأحوال يظل بعض الانفعال بالرسالة محوّما في الأجواء وربما تعلق منه بعض الذكرى بعد أن تهدأ الحالة الصوتية. والقصائد الصوتية من الأساس لا يعنيها من البقاء سوى ما تحصل عليه من تصفيق وتصاعد لآهات المستمعين، ويهمها من النقاد إطراء الرسالة التي تنقلها، والاتفاق مع مضمونها الأخلاقي عادة، والتأكيد على أفعال الأمر أو النهي التي تنقلها. في المقابل تأتي القصيدة البصرية (البصري هنا لا علاقة له بالتشكيل، وإنما بالتأمل؛ فشرط التأمل الرئيسي أن يكون للشيء شكل ولو افتراضي لتكون قادرا على مد حبال بصيرتك وخيالك وعقلك نحوه وتأمله) والقصيدة البصرية تحتاج قدرا أكبر من التأمل، فهي لا تختصر همّها في نقل رسالة أو تلقين عادة حميدة أو النهي عن ذميمة، ولا تسعد بخلق حالة وقتية من الانشراح أو التعاطف أو التصفيق، (هي لا تتعالى على ذلك أيضا) إنما هدفُها الأصيل النجاح في إقامة حوار وإثارة فضول وبثّ شحنة من الانتباه صوب مساحة ما فكرية أو جمالية أو أخلاقية ليس بقصد التلقين إنما بقصد التفكير. الفارق بين القصيدتين كبير، يشبه المساحة بين خطبة منبر ولوحة تشكيل، الأولى يملأها يقين رسالي يتماهى فيه القائل بالقول، وينحصر انفعاله من أجل تلقينك رسالته اليقينية مفترضا أن مهمته المثلى أن يجعل منك نسخة مثله، لأنه أرقى وأفضل منك، أو على الأقل أكثر علما، بينما القصيدة البصرية حالة تفكير تضجّ بالقلق، وجهة نظر تتلمّس طريقها وتستجير بالآخر، بك، تدعوك إلى التأمل معها -وليس حتى تأملها، تستفزّك من أجل أن تُضيف من عنديّاتك- أو حتى تنتقص، إلى أن تمتلك رؤيتك التي تستكمل إلى جوار الرؤى العديدة خارطةَ الوجود الإنساني. وهي -في مساحة أخرى- قد تكون من الأساس ليست منشغلة بك ولا حاجة لها بما تشعر أو تفكّر أو تريد، ولا تدعوك إلى شيء، إنما هي تعبير محض عن روح صاحبها القلقة المتأملة، وحسب. مدفوعا بهذا التصور الخاص حول الشعر -فهما وتجريبا- قلّلت من المشاركة في أمسيات “قول الشعر” تلك التي ينتظر فيها الجمهور أشعارا صوتية، وأحجمت عن نشر الكثير من النصوص؛ كل نص شعرت بأنه يتخلى عن مساحة الهمس والقلق أو ضبطته متلبسا بشبهة اليقين نحيته جانبا. مهمّة الشعر إثارة قلق الروح حتى لا تفسد، وزعزعة كل يقين مغلق على ذاته، الشعر إرباك حماقات اليقين وقصقصة أجنحته وإشاعة الفوضى بين جنوده وبث القلق بين جيوشه. القَلِق كائنٌ منتج، والموقن كائنٌ عاطل، لا يفكّر خارج يقينه. والشعر أداة خلخلة ترمي الظُلمة بشعيرات من الضوء تشفّ ولا تكشف؛ الظلمة يقين والانكشاف يقين في الاتجاه الآخر لا يقل في بطشه عنها، الحياة مزيج من الضوء والظلال نصنع بهما تشكيلا، الظلام وحده لا يصنع شكلا وكذلك الضوء. اليقين المغلق امتلاء كليّ، والامتلاء صنو الفراغ، وبداية الخروج من الحالة الإنسانية التي تسير على الحدّ الفاصل بين الظل والضوء، والشعر بشري يلعب بممكنات الحياة كلها، لا هو رسول ولا هو نبي، لا هو ملاك ولا هو جنيّ، الشعر بشري يختبر حياته، لا يعيشها؛ وأن تختبر الحياة، أن تشكل من بين الملايين من الاحتمالات حياتك، أما عيش الحياة فمجرد تكرار للنموذج والتزام بالتعليمات. الشعر لا يعرف التعليمات، الشعر يختبر الحياة ويصنع لائحته الخاصة. لا شك في أن القصيدة يمكنها الجمع بين الصوتي والبصري، أن توازن بين صُنع حالة تأخذ النفس عبر الأذن، وبين التسرب إلى العقل والمخيلة، ليس في صيغة رسالة ولا فعل أمر ولا موعظة، إنما في صيغة قلق جمالي وجودي يستدعي المشاركة في التفكير ويحثّ على البحث والتساؤل. كلما أقلقتك القصيدة كلما كانت أقرب إلى روح الشعر. الشعر آخر سماوات الكلام، فهي قمّة تجريده، والقصيدة الحقّة تعتصر الكلمات، تجرّدها وتعيد سبكها لتخلّصها من آفات التسطيح والاستعمال المباشر والاستهلاك الزائف وصولا إلى روح المعنى، فإذا فعلت بلغت ذروة سماء الشعر، واستنفدت كل ما تستطيعه الكلمات -كلغة- في إثارة الخيال وجلوّ الروح. كل ما تحت هذه السماء سرد يحاول أن يرقى إلى سماء الشعر، وما بعدها سماءٌ للغة أخرى لا سُلطة للكلمات فيها، إنها سماء الموسيقى حيث يتجاوز التجريد حدوده فلا تعود الكلمة قادرة على الوفاء بشروطه. وما بينهما القصيدة.
|