محمد طيفوري
كي نفهم سيرة ومسار هذا الأديب والشاعر المغربي الفذ، كان لزاما البدء من أسفل خريطة الوطن، وتحديدا بقرية أمازيغية من قرى منطقة تافراوت ضواحي مدينة أكادير جنوب المغرب، حيث ولد محمد خير الدين، ثم انتقل إلى الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية التي عاش فيها ما تبقى من طفولته الشقية، وخط فيها أول أعماله الشعرية والروائية المائزة التي ستقوده إلى نحت اسمه بعناية فائقة في سجل الأدب والثقافة الفرنسيين. ستينيات القرن الماضي قرر محمد خير الدين مغادرة المغرب المحتقن بتعبيره جوابا عن سبب الهجرة «إني كنت أحس بالاختناق في المغرب»؛ في اتجاه منفاه الاختياري في فرنسا، حيث أمضى في الغربة ما يقرب من عقد ونصف حتى دون أن يغيب عن وجدانه عن الوطن الذي التصق بجلده، وحظي بحصة الأسد في قصائده الشعرية ورواياته. أمر ليس بغريب على مثقف اختار الانتصار لأبناء وطنه والالتزام بقضاياهم، من منطلق نظرته الالتزامية إلى الكتابة، وعن ذلك يقول «أنا أريد أن أكتب وأريد أن أناضل معا. الكتابة سلاح... وينبغي للمحب أن يحب أسلحته». هجرة امتزجت بعصامية متفردة قادت هذا الأمازيغي المتمرد، الذي اختار لغة موليير قناة للتخاطب إلى العالمية عندما طلب زعيم الوجودية الأكبر حينذاك جون بول سارتر لقاءه بعدما فتح له صفحات مجلته «الأزمنة الحديثة»، ونال كذلك صداقة الكاتبة الثائرة سيمون دي بوفوار التي تعرفت عليه من خلال اشتغاله في إذاعة فرنسا الثقافية. يمكن القول، وبدون مبالغة، إنه واحد ممن تمكنوا من تأسيس اتجاه خاص بهم في الأدب عامة، وفي فن الرواية على وجه الخصوص، فقد وُصفت روايته الأولى «أكادير» (1967) بأنها رواية شعرية؛ وهو مصطلح جديد وقتها في معجم السرد الأدبي.يتعمد خير الدين إزعاج قرائه، وذلك من خلال استعماله لغة إبداعية جد قوية، تصعب في بعض الأحيان حتى على النخبة من المثقفين الفرنكفونيين. وهو ما أدركه جيدا حين قال ذات حوار ردا على سؤال «ما ينتظره من كتبه»؟ فكان جوابه باقتضاب «آمل أن تُقرأ وتُفهم». أثرى محمد خير الدين الخزانة الفرنسية بأعمال متنوعة ما بين الرواية والشعر منها «غثيان أسود» (1964)، «جسد سلبي» و»تاريخ إله طيب» (1968)، «شمس عنكبوتية» (1969)، «أنا الحاد الطباع» (1970)، «النبَّاش» (1973)، «حياة وحلم وشعب في تيه دائم» (1978)، «انبثاق الأزهار المتوحشة» (1981)، «أسطورة أغونشيش» (1984)، «نصب تذكاري» (1993)، «زمن الرفض» (2003)، «يوميات سرير الموت» (2004)... تُرجمت معظم هذه الأعمال في إطار سلسلة محمد خير الدين بعد وفاته إلى لغة الضاد، وإن كان نصيبها المنع من التداول في الساحة المغربية إلى حدود سنة 2002. ننتخب من هذه الباقة من الماتعة كتاب «يوميات سرير الموت» لاستثنائيته المفرطة في الساحة الأدبية، فهو وليد خط التماس بين الحياة والموت، تلك اللحظة التي كتب فيها الكاتب عن الموت ويعيشه في الآن نفسه، وهي من اللحظات النادرة التي تفرد خير الدين بتوثيقها للقراء في هذا العمل. يوميات مفعمة بالقسوة والصدق والصراحة المدمرة أحيانا، وهي أمور ليست بغريبة على كاتب استثنائي من طينة خير الدين. إذ لم يتردد في وصف نفسه في متن اليوميات بـ «الكلب العجوز الذي يئن من الداء وحيداً أعزل» قبل أن يضيف «صرت رخو الدماغ، أشبه بالأبله، فمنذ 1993 وأنا أتناول الأدوية كل يوم حتى لكأنني صيدلية متنقلة». ويعطي قارئه فكرة دقيقة عن حاله قائلاً «فقدت عضلاتي. تُبّاني يسقط من تلقائه وكذلك السروال. وإذا هممتُ برقن نصوصي، لا أجد غير عظام هزيلة نحيلة وبقيةٍ من جلد أضعها على الكرسي فألاقي في الجلوس عناءً. بيد أني لست حزينا مهما حدث». وجد خير الدين نفسه في جحيم الآلم بالصدفة، فقد كانت نشأت هذه المحنة المرضية كلها من عملية قلع ضرس باءت بالفشل. «فبدل أن يقلع طبيب الأسنان الضرس المريض، يحكي خير الدين، إذا هو يكسر من جهالته عظم الفك». وكانت النتيجة سرطانا في الفم بدءا من عام 1993. وها آنذا - يضيف الكاتب - الآن طريح الفراش، يتنازعني عالمان غامضان مشوشان. أمنيتي الوحيدة أن أنعم بالهدوء، وأخرج من هذا الجسد المؤلم وأتنفس الصعداء ولو لهنيهة. في هذه اليوميات يحكي الطائر الأزرق كما وصفه الفيلسوف جون بول سارتر عن علاقته بكثير من الأدباء والمثقفين الفرنسيين المعروفين كأندري لود، بيير برنار، وجاك بيرك وبيير بيارن صاحب شعار «ميترو وعمل ونوم» الذي رفعته ثورة الشباب المتمردة عام 1968. وحينما يتحدث عن الفرنكوفونية في اليوميات يصفها قائلاً «إنها لفظة عامة، فارغة من أي دلالة. أما أعمدة اللغة الفرنسية فهم الذين يضعون فيها المؤلفات العظيمة، وليس القردة البلهاء الذين يحتلون الواجهة عارضين سخافاتهم في مقدمة المسرح». وصل نقد خير الدين أساتذة الجامعة الذين قال عنهم «الأساتذة الجامعيون يجعلونك تأكل التراب بدل الكسكس. وهم على كثرتهم يركنون إلى التكرار ويعجزون عن الخلق والابتكار. الجامعة ليست فضاءً ملائماً للتأمل أو للتفكير، وإنما هي منتج للتفاهة والابتذال. بِئس المكان هي! يُغتصب فيها النص من غير أن يفهم». تُظهر اليوميات الذاكرة القوية لدى خير الدين في قدرته على استعادة وقائع بشخصياتها وأماكنها، وينقل الحوارات وكأن سويعات فقط تفصله عنها لا سنوات وعقودا.نقرأ في اليوميات «كنت في وقت من الأوقات لا آوي إلى سكني في شارع فولتير في باريس إلا في السابعة صباحاً. كنت أقضي ليالي في النوادي رفقة بعض الساهرين. ثم أنام إلى الزوال. فإذا استيقظتُ أنهمك في العمل. وقد أترك البيت في بعض الأماسي متأبطاً مخطوطي لأجلس إلى طاولتي في مطعم تيرمينوس بساحة الجمهورية ... في كل مساء تتحلق حول الطاولة طعمة مشبوهون اجتمع فيهم المقامرون واللصوص وتجار السلاح.. تطرق شرطة المخدرات أو شرطة محاربة الأشرار هذا المكان بانتظام. ويمسك شرطي ضخم الجثة بكاميرا يصور بها سائر من في المطعم فيما عداي أنا. فقد كان رجال الشرطة يعرفونني. قال لي أحدهم مرة: «مرحى! مرحى! تستطيع أن تكتب في هذا الخضم المضطرب». أجبته «حين أكتب لا أهتم لشيء». وتلك كانت الحقيقة. فلا يعود لأي شيء حينها وجودٌ ما عدا الشخوص التي أنشئها والورقة والقلم..». هو ذا محمد خير الدين الذي وصفه الروائي المغربي الطاهر بن جلون بواحد من أقوى أصوات المغرب الكبير وأكثرها أصالة. كاتب وشاعر مشاكس أرّق قلمه السياسيين في المغرب، والسلطة الفكرية والثقافية في فرنسا بالنظر إلى حدة لسانه ونقده الشديد لسلطة المؤسسات هنا وهناك.
|