عواد علي
في المجتمعات المتقدمة لا تُطلق صفة المفكر إلا على الشخص المؤهل بجدارة لحمل هذه الصفة، وهو، بشكل عام، ذلك الشخص المنتج للفكر، بصرف النظر عن تخصصه، الذي يتحلّى بالمعرفة الواسعة والحكمة والرؤية النقدية العميقة، وبُعد النظر، والقدرة العقلية المنهجية على التحليل والاستنتاج وتفهم المشكلات والأزمات واقتراح الحلول لها، والمرتبة العالية في صوغ المفاهيم والمقولات والمشاريع الثقافية والحضارية وإبداع الطروحات الجديدة، وغيرها من الميزات التي تجعله في طليعة المثقفين، أو من نخبة النخبة. وفي الانطباع العام يُعدّ المفكر أعلى درجة وأرفع رتبة من المثقف، وأقل درجة وأنزل رتبة من الفيلسوف، وبحسب هذا الانطباع الشائع فإن المفكر يقع في منزلة وسطى بين المثقف والفيلسوف، منزلة تخطت مرحلة المثقف، ولم تصل بعد إلى مرحلة الفيلسوف، لكنها تقع على هذا الطريق. الأمر الذي يعني أن المفكر لا يكون مفكرا إلا بعد أن يتخطى وضعية المثقف، والفيلسوف لا يكون فيلسوفا إلا بعد أن يتخطى وضعية المفكر. وسواء سلّمنا بهذا الانطباع أم لا، فإن ثمة مشتركات معرفية وإجرائية كثيرة تجمع بين الفيلسوف والمفكر، منها الوعي المتّقد وإنتاج الأفكار والرؤية النقدية واستخدام الأدلة والبراهين بكفاءة عالية. يشترط بعضهم على المفكر أن يتصف بحبه الشديد للمعرفة والاحتفاء بالجديد والشعور بالمسؤولية والاستقلالية عن قيود الانتماء الحزبي والعرقي والديني والمذهبي، وأن يكون نسيجا لوحده، دائم التعرف على ما لديه، وكلما رأى جديدا ينسجم مع رؤيته أخذ به، وتخلّى عن بعض أفكاره القديمة. ولذلك فإن عدد المفكرين، بالمعنى الذي حددناه، يكون محدودا، ولهم مكانتهم المرموقة بوصفهم رموزا وضمائر حساسة لشعوبهم وأوطانهم وللإنسانية. وإذا كان المفكر قديما، أو المتشوّف للتحصيل “يأخذ من كل علم بطرف”، في سياق تداخل العلوم والمعارف الإنسانية والطبيعية، فقد أصبح في العصر الحديث متخصصا، منهجيا، في حقل واحد أو اثنين أو ثلاثة، وصار يوصف بأنه مفكر سياسي أو مفكر اجتماعي أو مفكر اقتصادي أو مفكر أنثروبولوجي.. إلخ. غالبا ما يعرف العالم المفكرين أكثر من الزعماء السياسيين الذين حكموا بلدانهم في عصورهم، فإن سألت اليوم أيّ إنسان متعلم تعليما بسيطا عن مفكّري وفلاسفة اليونان القديمة لذكر لك أسماء سقراط وأفلاطون وأرسطو، أو عن المفكرين والفلاسفة العرب القدامى لذكرك لك أسماء ابن رشد وابن خلدون وأبي حيان التوحيدي.ولو سألت متعلما على قدر جيد من الثقافة عن مفكرين وفلاسفة معاصرين لذكر لك أسماء مثل نيتشه وماركس وسارتر وماركوز وطاغور ومحمد إقبال وبرديائيف ومالك بن نبي وغيرهم، أما لو سألت كليهما عن أسماء الزعماء السياسيين المعاصرين لهؤلاء المفكرين في بلدانهم لعجزا عن ذكر اسمين أو ثلاثة أسماء. ويصح هذا الأمر طبعاً على كبار الأدباء والفنانين أيضاً وليس المفكرين فقط لأنهم من صفوة شعوبهم وبلدانهم. في عالمنا العربي اليوم صار بعض الإعلاميين وأنصاف المثقفين المنافقين والمرتزقة يطلق صفة المفكر على رهط من كتّاب المقالات أو مؤلفي الكتب، غثّها وسمينها، أو على كل من يحمل شهادة عليا، مثلما يمنح لقب “محلل سياسي” أو “خبير استراتيجي” في الفضائيات على كل من هبّ ودبّ ممن يجيدون “الردح الإعلامي”، أو ممن اعتادوا على إبداء آرائهم حول الأحداث السياسية التي تجري في العالم! والمصيبة أن هؤلاء الذين يوهَبون لقب مفكرين، عن جهل أو مصلحة، يوهمون أنفسهم بأنهم أصبحوا بالفعل مفكرين، وتهتز أنفسهم طربا لهذه الهبة، فيحاولون التطفل على المفكرين الحقيقيين أو مناطحتهم دون دراية.
|