صالح جبار خلفاوي
أمستردام مدينة غائمة وممطرة طوال السنة تقريباً .. حدائقها مبللة بعطر الورود .. شباك غرفتي الدافئة يطل على الشارع الذي يبدو نظيفا إلا من أصص يدفعها الهواء بلطف .. القهوة الساخنة تفتح في مجرى البلعوم نكهة محببة يشوبها خيط رفيع من المرارة دخان السيكار يغطي الصالة الممتدة حتى السُلم الذي يصعد نحو الطابق الأول حيث غرفة النوم .. أتطلع نحو جاري الذي يقود دراجته الهوائية .. بأندفاع متحمس لايتناسب مع عمره الذي تجاوز العقد التاسع .. الأجواء الرطبة تدفعني ان احلم بشمس بغداد التي تكوي ظهري حينما أستدير عابراً جسر الشهداء باتجاه ساحة الرصافي .. المكتظة بعربات الدفع يقودها عتالون ينعمون بصحة جيدة .. وأصوات سائقي مركبات النقل تحث السابلة على الصعود معهم .. يرجع جاري بعد جولته الرياضية .. قطع خلالها مسافة تمتد إلى حقول تربية الأحصنة الهولندية الأصيلة .. يستشعر جمال هذا الحيوان القوي بشغف .. يلقي تحيته رافعاً ذراعه إلى الأعلى ..يبدو منتشياً .. فكرت الذهاب إلى منزله لتناول فنجان قهوة .. لكن الأخبار المتلاحقة عن الوضع الأمني .. تدفعني لتأجيل الزيارة .. تبقى الصور تشدني بمتابعة قلقة .. القنوات تبث نشراتها الإخبارية .. جهاز الموبايل يّرن .. أنه اتصال من الوطن .. ترتعش مفاصلي .. يتواصل الرنين .. المطر يعزف ألحانه بلا توقف .. الغيوم الرمادية تتكاثف .. أستند مشجب الملابس والمظلات الملونة .. قرب الباب الخارجي الذي يجتاحه البرد .. أسمع أصواتاً متداخلة .. تراشق يوحي باضطراب متشنج .. أحاول عبور الطريق المبلل .. ألمح جارتي تحمل أكياساً من النايلون .. خمنت أنها كانت تتبضع من السوق الذي يقع في الطرف الأخر .. مرحبا سيدتي .. كيف الحال ؟ أرجو أن تكوني بخير .. أهلا جاري العزيز .. كيف حال زوجك بول ..؟ على ما يرام .. أين أجده ؟ في الداخل .. بالغرفة الواسعة .. ستجده هناك .. الغروب يزرع مفاصله في أرجاء الغرفة الفسيحة .. الأثاث يتوزع بانتظام حول موقد الفحم الملاصق للحائط .. المكان يبدو موحشاً بإضاءته الخافتة .. صفير يأتي من دهليز المدخنة .. التي ازدانت واجهتها بصور شخصية لعائلة جيراني .. مسحة متقنة توحي برابطة قوية .. لكني لاأرى بول ..؟ أنه أمامك .. في المزهرية بين الصور .. ماذا ..! لقد توفي في الشهر الماضي .. وفي تلك القارورة .. وضعت رماد جثته بعد إحراقها .. أضافت بثقة مفرطة .. طلب أن يبقى معي دائماً .. حتى لايبتعد أبقيته في حيز قريب الى روحي ..
|