رشيد الخديري/المغرب
ما تشعر به وأنت تفتح “مرايا المطر”، نصوص نثرية [ صدرت عن فضاءات للنشر والتوزيع، 2016] للكاتبة والروائية الفلسطينية صابرين فرعون، هو الشعور بالنشوة والاغتسال من كل الخطايا الدنيوية، المطر هو ما يُعبِّدُ الطريق نحو التحرر من قيود المادة، والانطلاق نحو الأفاق البعيدة، من هناك من أقصى القدس إلى أقاصي الحرف، تُصِّرُ صابرين فرعون على نسج خيوط الألفة بين العصافير والسماء، بين الإنسان والأرض، بين أيقونات الكنائس ووشوشات الطيور فوق التلال. هذه النصوص النثرية العائمة تطرح في البداية إشكالية التجنيس، لم نصوص نثرية، ولا شيء آخر؟ هل الكاتبة تتهيب من تسميتها بالشعر جرياً على التسميات التي تتسم بها قصائد النثر؟ أم الأمر يتعلق بوعي الكتابة عند صابرين فرعون؟ ومهما اختلفنا في أمر التجنيس، فإن هذه النصوص مراوحة، بمعنى هي بين بين، بين الشعر في كثافته وصوره ولغته الراقصة، وبين النثر في حريته، في تحرره من بلاغة الاقتضاب والتكثيف، ولو أني أراها دفقا شعوريا- شعريا آفاقاً وآسراً، وهذا تحديداً ما تنبه إليه الشاعر والقاص أبو دية حين كتب في المقدمة:”لا أحد قادر على التنبؤ أي إبداع قد ينتج من التقاء قلم مبدع، ولغة جزلة أنيقة، وخيال محلق، وقضايا وطنية وشخصية، يعيشها الكاتب ويتفاعل معها بكل ذرات حواسه، فيتماهى الخاص والعام، سيما إن صاحب ذلك تجربة عميقة، وثقافة واسعة ونفس حرة تواقة للخروج من قضبان المعاناة المفروضة للتحليق عاليا في أفاق سرمدية لا سقف يغطيها” [ص:07]،جلي أن تتعلق الروح بالأرض، أن تتبلل بالمطر المذهب، خاصة إذا تعلق الأمر بمحاولات عديدة للتحرر والتحليق عالياً نحو السموات، تقول الكاتبة/ الشاعرة:”باذخ العناق وهو يحتفي بخطوات الانتظار/ يتمرغ القلب بأنات الروح/ ونكتفي بإدانة الماء/ بصدى الصوت كي لا يفسد قضم التفاح/ لعله يراودنا الظل قرباً/ فنمتلك الحكايات في صرخة/ تذوي في حنجرة الورد،[ من نص: عناق، ص 09]، ألسنا هنا في حضرة الشعر؟ أليس هذا العناق السرمدي هو بكاء روح، ومكابدات روح وهي تستحم في مياه الأبجدية، إننا في خضم المطر، أوان الاغتسال ومعانقة السحاب، حينها تتحول صابرين إلى شهرزاد، تطرز الحكايات بالورد، بخيوط الشمس الذهبية، لعلها تُحَقِّبُ خطواتها بالأزلي والخالد. إننا أمام متعاليات نصية باذخة، تروم مساءلة عتبات الذاكرة، وتحاول النسج على مثال الحلم، هكذا تستعير صابرين فرعون وجوهاً من الزمن الماضي، من الذاكرة حين تصير منفى، بعيداً عن بريد الأغنيات الذي تأخر كثيراً، الكتابة عند هذه الكاتبة عائمة، مبللة بالمجازات والاستعارات، وظني، أنها تبحر بنا في اللجة، ولا تكتفي فقط بإدانة الماء، وإنما تتقنع للتعبير عما يخالج الصدر ومكنون القلب، تقول:”في كتف الاستعارة والمجاز/ يطلق الليل بهيمه/ ينثر الألم أبجديته/ في الدجى نجوم/ تعشش في مرايا الأغنيات/ مضمخة بالحب/ ...”، [من نص: وجوه تستعير الحب من الطرقات، ص 16]، فالذاكرة مقفلة، ولا جواب للأسئلة التي تتناسل كل لحظة، وحدها المرايا تعكس الحبات البلورية للمطر، وصابرين في هذا العمل النثري/ الشعري، تسافر بنا في تآبين الذات، باحثة عن عشبة جلجامش، عن انكيدو وخطواته من أجل الخلود، من أجل كؤوس الصداقات وهي تتكسر عند العتبات، ما أعنيه حقاً، هو هذه النصوص تذكرة سفر نحو مجاهل الكتابة في رحابتها، رغم هذه الحروب الصغيرة الأجناسية التي تطفو على المشهد بين الفينة والأخرى، أنا مع الإبداع في أي قالب كان، مع المطر وهو يحملني إلى ربات الخلود والشعر.
|