ينتصر عنوان المجموعة الشعرية “نزهة بحزام ناسف” للشاعر العراقي كاظم خنجر، لرغبة دفينة ومشغول عليها في الجمع بين التضادين اللغوي والمعنوي، محققا بذلك تفخيخا مخاتلا للعتبة النصية والاستدلالات الأولية للعنونة الصادمة، بما تتحمّله من عبء وتفتيح يقود إلى المتن باطمئنان العارف بالشيء. تلك البساطة المتبدية ليست بساطة في حال العلم بها وهي معلوم بها؛ تلك الشحنة المعرفية بتلبس روح المكان والأخذ بما تعطيه من توضيح لا يجانب الدفقة الشعورية المتنبّه لها، وإنما يخلص لها بإيهام القارئ الذي خبر المكان أو يريد التعرف عليه من خلال اللغة، باللعب معها وبها في منطقة يعرفها، ولكن يعيد اكتشافها باللغة التي تجرّه إلى مساحاتها البكر، مساحات من الدم والكلام والصورة، كأنها ثلاثة أقانيم تتعاضد في اللغوي، وتفجّره من داخله بعيدا عن ذلك الاستعراض الظاهراتي، ولو أننا نجد هنا العلاقة الوثيقة بين تلك الأقانيم توطّد جزءا من الفاقد في الاستعراض المجاني. يظهر ولو من خلال قراءة عاجلة لمحتوى النصوص بما حملت من عناوين مضمّنة في المتن، أنها مختلفة شكلا ومتقاطعة في بؤرة شعورية وشعرية واحدة، تخصّ حالة عامة دامغة بوضوحها ووجودها الحياتي في حياة بشر يتنوّعون ويتوّزعون على أمزجة وأهواء وآمال، وكذلك يختلفون في انتماءاتهم، وهي غالبا انتماءات حادة ليست حقيقية، موهمة ولا تنتمي إلى العمق والجوهر “لا ندري ما هي الجثث التي تعود إليكم، والجثث التي تعود إليهم، ومن ثمّ لا رؤوس تحدّد ذلك”. يكتب خنجر هنا من زاوية الشخصي، الزاوية المؤلمة المشوبة بالفقد، لما يجده شخصيا ويتشابه فيه مع عموم العراقيين، بعنوان “عاجل/ العثور على مقبرة جماعية بالقرب”، ربما يجمل المنتج المتلمّس لوسطه المتفجّر أغلب القصص في قصة واحدة، فالنص المشحون يكاد يكون مشهدا حقيقيا يتمثل في توقيع شخص ما على كتاب يوحي بأن الجثة التي أمامه تخصه: كأن تكون للأخ أو الأب أو الأم أو لفرد ما عزيز، وغالبا ما تكون هذه الجثة بقايا لجثة مشوهة ومعطوبة من غير رأس، أو برأس وأطراف تخص شخصا آخر “يقول التقرير الطبي بأن كيس العظام الذي وقّعت على استلامه اليوم هو: أنت. ولكن هذا قليل. نثرته على الطاولة أمامهم. أعدنا الحساب: جمجمة بستة ثقوب، عظم ترقوة واحد، ثلاث أضلاع زائدة، فخذ مهشمّة، كومة أرساغ، وبعض الفقرات. هل يمكن لهذا القليل أن يكون أخا؟”. تأتي “نزهة” بجوّها الاحتفالي/ السروري، في حين الشق الثاني من العنوان “بحزام ناسف”، يأتي بالسوداوي، والجمع بينهما لم يكن إلا لصالح الصدمة التي تتركها اللغة ويتركها الحدث الذي اشتغلت اللغة عليه وفجّرته ليفجّرها، مجانبة المنطقية للجمع بين مفردتين أو جملتين تسند إحداهما الأخرى، كاظم خنجر يأخذ من شخصه قرب الحدث، ليستشعره من جوانيته ويشعّره، فهو ليس المتنزّه وإنما المفجوع بأهله، أهله/ عائلته، ثم أهله الأبعد، حين يظهر للمتلقي عمل هذا الكائن المنحاز لإنسانيته وليس لطائفته، هو انحياز كوني، تقرّه لغته فقط، وهو ليس الناسف بحزامه ولكنه المنسوف. لا فرق بين النصوص؛ كلها تتجاوز، تتكاتف، تترابط في المعنى وفي الحديث عن عامّ معيش بصيغة المفرد، الفاقد الشخصي، والمفقود الذي كان إلى وقت قريب كائنا فاعلا، وصار رقما أو بقايا جثة. تأخذ اللغة هنا غرابتها من قدرة هائلة في تحويل اليومي كحكايات وأقاويل إلى مصاف الفعل اللغوي، وبالتالي إلى الشعرية غير الحالمة، إلى الشعرية التي تحتفي بالمقبرة والموت، وتحوّل المفردتين إلى طاقة ضدّ كل تلك البشاعة والمجانية وعطالة الحياة. كاظم خنجر في “نزهة بحزام ناسف” يقدّم بديلا جماليا عن القبح؛ ارتكازه على مفردتي “جثث” و”مقبرة” يحيل إلى ذلك الموت المجاني العراقي واليومي، تحت مسميات ورايات عديدة تتقاتل في ما بينها، وتتصارع على اللاشيء أو على شيء لا ينتمي إلى الحقيقة وإلى هموم مجموع البشر، بوصفهم أناسا تعبوا من الحرب، وأخذ الموت منهم أحلامهم ورغباتهم في الحياة. ثمة مقدرة في الكتابة هذه على الصمود، وخوض رهان التحدّي في الإصرار، والإخلاص لموضوع واحد هو “الموت”، الذي أصبح عاديا في أرض ابتليت بالحروب، بعدما كانت أرض حضارة وقدّمت إلى البشرية أغلب ملاحمها. الكتاب يخرج عن التجنيس ليكون وثيقة أخرى محايثة عن الهول.
|