نشوان محمد حسين لعلي أجد في الثامن من شباط مناسبة للرد على بعض الأصوات التي تحاول – عن جهل أو سبب آخر – نسب ما مر بالعراق من ويلات وحروب وأزمات إلى ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 باعتبارها هي المفتاح لكل هذه المعاضل والمآسي، ولا أريد هنا أن أتكلم عن الفارق ما بين عراق الملكية صاحب المستشفى والمدرسة الواحدة، وصاحب السيد والعبد وما بين عراق الجمهورية الأولى صاحب أكبر نهضة اقتصادية وثقافية وفكرية في المنطقة.. وذلك لأنني سأحتاج إلى مقال آخر وربما الى مقالات، ومن المناسب أن أشير هنا إلى أن ثورة 14 تموز كانت ضرورة صاغتها بشكل أساس السياسات الفاشلة لفترة الحكم الملكي وتداعيات الأحداث العالمية. على أية حال أنصب جهد حكومة الجمهورية الأولى على الارتقاء بواقع الشعب خصوصا بشأن ما يتعلق بتقديم الخدمات وإلغاء الفوارق الطبقية.. أما فيما يخص أحداث العنف المحدودة التي جرت خلال الأيام الأولى للثورة فقد كانت ردة فعل لسنوات من الكبت والحرمان ونتيجة ما كان يعتبره المواطن البسيط خيانة الحكومة لقضاياه، ثم تمخضت عن الثورة فيما بعد أحداث عنف بين المستغَلين (بفتح الغين) والمستغِلين (بكسر الغين) وبين من يملكون ومن لا يملكون ولم تتعرض حكومة 14 تموز للمناوئين لها سياسيا بطريقة التصفيات الجسدية حتى أنه تم الإعفاء عن الذين حاولوا اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم وكانت تجري محاكمات علنية للمتهمين السياسيين وتم تبرئة الكثير منهم فضلا عن سماحها لأغلب الأحزاب بحرية العمل. أما حكومة انقلابيي الثامن من شباط فإنها وفي طريقها لاستلاب السلطة نرى ان أول ما فعلته هو قتل الجماهير وسرعان ما نفذت سابقة تأريخية تبقى نقطة مخزية في تاريخهم حينما أعدموا الزعيم عبد الكريم واثنين من معاونيه رميا بالرصاص وبتصوير حي على شاشة التلفاز! ترى لماذا هذه السرعة في التخلص منهم؟! ولماذا تم الامر بتصوير حي تشاهده المرأة والطفل!؟ الجواب باختصار هو أن الانقلابيين ومن خلفهم يدركون جيدا الشعبية الكبيرة التي تتمتع بها حكومة الزعيم، وكذلك يدركون صعوبة موقفهم الناتج من ضعف مقبوليتهم وتحدي الجماهير لمشروعهم، لذلك كانوا بحاجة إلى عمل إجرامي حاسم ينزل الإحباط بصفوف الجماهير ويوصل لهم رسالة ترويع وهم يشاهدون زعيمهم يقتل أمام أعينهم بطريقة بربرية.حكومة 8 شباط الانقلابية التي تقنعت بالمشروع القومي واستغلته كأداة لتحقيق أهدافها في الاستيلاء على السلطة لم تكتف بتعطيل مشاريع النهوض الاقتصادي والثقافي بل أخذت تتبنى تحطيم ما تم بناؤه سابقا، وإذا كانت ثورة الرابع عشر من تموز قد شهدت بعض أحداث العنف للأيام الأولى فإن انقلاب الثامن من شباط استمر في قتل واعتقال الآلاف من المواطنين الأبرياء حتى كان انفصاله الكامل عن الجماهير وعشقه للسلطة سببا في حدوث صراع بين عصاباته انتهى بانقلاب آخر بعد ثمان شهور تقريبا.. إذن حكومة انقلاب 8 شباط لمن تكن بكل حال من الأحوال تمثل امتدادا لثورة 14 تموز التي كانت مقلقة لكل الدول الإقليمية وعموم الدول الرأسمالية وفي مقدمتها اميركا وبريطانيا اللتان سبق وان أدركتا أن الحكومة الملكية فقدت كل مقومات بقائها وعليه لا يمكن إحياؤها من جديد كبديل لحكومة 14 تموز.. وبنظرة تحليل اقتصادية اجتماعية سريعة نلاحظ أن انقلاب 8 شباط هو عودة للنظام الملكي ولكن بمسمى آخر وبوجوه جديدة خصوصا فيما يتعلق بتنفيذ سياسة الغرب والصهيونية. وإذا عدت لتلك الأصوات التي تتهم ثورة تموز بمآسي العراق اللاحقة فان شخصية وأخلاق الزعيم تختلف كثيرا عن مثيلتها لدى عبد السلام عارف الذي لم يتردد ولم يفكر لدقائق قبل إعدام صديق سبق أن عفا عن تآمره.. وهي كذلك أبعد ما يكون في وطنيتها وانسانيتها إذا ما قورنت مع صفات صدام وليعلموا أن هنالك فرقا بين الحكم الديكتاتوري وبين الحكم الفردي، فالأول هو تسلطي تعسفي والثاني ليس بالضرورة أن يكون كذلك! وأحب أن اذكرهم بأن الثورة الفرنسية التي أعلنت الجمهورية لا يمكن اختزالها بفترة حكم روبسبير أو نابليون وليس ذنب الشعب أن يتآمر عليه الخارج الذي هو أقوى منه في كثير من الأحيان كما في حالة العراق.. هذا في حالة كانت تلك الأصوات تجهل الكثير من المتعلقات أو انها برزت نتيجة لحالة عميقة من الإحباط الذي خلفه تراكم أزمات العراق، أما إذا كانت هذه الأصوات نابعة من سوء نية وحسابات سياسية لبعض المغرضين فإننا قد نعذرهم وهم يجدون أن مشروع الإسلام السياسي لم يكن بأحسن حال من المشروع القومي وهم يعلمون جيدا أن الناس سوف تتجه بشكل اكبر أو لنقل ستعود بدماء جديدة إلى القوى السياسية اليسارية التي حكمت الجمهورية الأولى والتي تآمر القوميون وأغلب الإسلاميين على سفك دمائها في الثامن من شباط.
|