ناظم محمد العبيدي لكل عمل ميثاق شرف يحميه من الزيف، ويمنحه مصداقية أن يكون ممثلاً لجدواه والقيمة التي وجد من أجلها، ومهما تطورت الحياة وأساليب العمل يظل لهذا الميثاق وجود ظاهر ومؤثر، فاذا ما أصبح الانحطاط والتردي سمة شائعة في مجتمع ما فهذا يعني بالضرورة أن ثمة خيانة لذلك الميثاق، وأن طرق الحياة جميعها ستغلق في وجه الجميع في النهاية، وتتحول الحياة الى معاناة حقيقية تولد مثيلتها هكذا في دورة ليست لها نهاية، وتتردد حينها على السنة الناس عبارات القنوط واليأس من كل شيء، وربما قادت أعداداً كبيرة منهم الى الهرب خارج الوطن، لا زهداً به بل بسبب التردي وانعدام فرص الحياة التي يؤملونها، والسبب الحقيقي هو ضياع ذلك الشرف المرتبط بكل نشاط انساني. ولا شك ان ما يحصل تنسحب مسؤوليته على السياسي ورجل الدين والمهندس والعامل والصحفي وكل فئات المجتمع الأخرى، ويتركز الحديث عادة على السياسي بشكل خاص لأنه حمل مسؤولية تمثيل الملايين من الناس، ووضع يده -بحق أو بغير وجه حق- على مقاليد السلطة والثروة، وما دمنا نعيش في مجتمعات أبوية لا تحظى الديمقراطية فيها بتقاليد حقيقية، فليس بمقدورنا أن نتغاضى عن خطورة الدور الذي يؤديه السياسي بحجة أنه مجرد فرد أو مجموعة أفراد ضمن مجتمع كبير يضم الملايين، فهذه الجملة لو قيلت عن مجتمع له تاريخ طويل في الممارسة الديمقراطية وله مؤسسات فاعلة فربما ستكون مقنعة، أما في مجتمعات العالم الثالث فإن صناعة شكل الحياة بكل ما فيها من تفاصيل انما تقع على عاتق شخوص بعينهم، وربما أدى تغيير مسؤول بآخر يتمتع بالمصداقية الى إحداث تحول واضح في النتائج والإنجازات، وما ذلك الا بسبب النزاهة والاستعداد الذاتي للقيام بالعمل وفق المعايير التي تتعلق بشرف المنصب ومتطلباته. ولم تنفصل القيمة الأخلاقية عن الفعل المعرفي والحضاري في عالمنا المعاصر الا لدى نفر قليل من المفكرين الذين ساروا على خطى السياسة، وفقدت الرؤية عندهم استقلاليتها لتكون حرة، وعوضاً عن توصيف الحقائق وقراءتها وفق معطيات العقل وشروط الفكر فانها تصبح رهينة بالسلوك السياسي ودوافعه الآنية والمنحازة، وهذا ما يجعل منها دفاعاً غير مشروع عن التردي الحضاري والإنساني، ويمكن استقراء كل الإنجازات التي وضعت في تاريخ الإنسانية لرؤية ذلك الجوهر الأخلاقي المرافق له، وهذا الامر يعبر عنه (البرت اشفيتسر) وهو يصف مخاطر ما تواجهه حضارتنا المعاصرة في كتابه (فلسفة الحضارة) بقوله: «فلما بحثت في ماهية الحضارة وطبيعتها تبين لي في ختام المطاف أن الحضارة في جوهرها أخلاقية». هو تلخيص لمأساة عالمنا اليوم، ليس في أزماته التي ينظر اليها عادة على أنها ضريبة طبيعية للمتغيرات الحاصلة في انشطة الحياة الإنسانية، بل في غياب القيمة الأخلاقية عن هذه الأنشطة التي ما عادت تضع ذلك في اعتبارها، لتتسع الفجوة بين ماهو ضروري وأساسي للمجتمعات مثل الأمن وحفظ الوجود، وبين ما هو نافع وكمالي يمكن الاستغناء عنه، وهذا ما يهدد مستقبل شعوب بأسرها، وليس شعوب العالم الثالث فقط!.
|